عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن
مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) رواه البخاري
.
الشرح
الحياء زينة النفس البشرية ، وتاج الأخلاق بلا
منازع ، وهو البرهان الساطع على عفّة صاحبه وطهارة روحه ، ولئن كان الحياء خلقا
نبيلا يتباهى به المؤمنون ، فهو أيضا شعبة من شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى
الجنة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان ، والإيمان
في الجنة ) رواه أحمد و الترمذي .
والحق أن الحياء رافد من روافد التقوى ؛ لأنه
يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل ، ويصونه عن مقارفة كل قبيح ، ومبعث هذا الحياء هو
استشعار العبد لمراقبة الله له ، ومطالعة الناس إليه ، فيحمله ذلك على استقباح أن يصدر
منه أي عمل يعلم منه أنه مكروه لخالقه ومولاه ، ويبعثه على تحمّل مشقة التكاليف
؛ ومن أجل ذلك جاء اقتران الحياء بالإيمان
في غيرما موضع من النصوص الشرعية ، في إشارة واضحة إلى عظم هذا الخلق وأهميته .
وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق
واشتُهر عنه ، حتى قال عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذلك : (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها ) ، وهكذا نشأ الأنبياء جميعا على
هذه السجيّة ، فلا عجب إذا أن يصبح الحياء هو الوصية المتعارف عليها ، والبقية
الباقية من كلام النبوة الأولى ، والتي يبلغها كل نبي لأمته .
وللحياء صور متعددة ، فمنها : حياء الجناية ،
ومعناه : الحياء من مقارفة الذنب مهما كان صغيراً ، وذلك انطلاقا من استشعار العبد
لمخالفته لأمر محبوبه سبحانه وتعالى ، ومن هذا الباب اعتذار الأنبياء كلهم عن
الشفاعة الكبرى حينما يتذكرون ما كان منهم من خطأ – وإن كان معفوا عنه - ، وكان
الإمام أحمد بن حنبل يكثر من قول :
إذا ما قال لــي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيــان تأتيني
فما قـولي له لــما يعاتبنــي ويُقصيني
وهناك نوع آخر من الحياء ، وهو الحياء الذي
يتولد من معرفة العبد لجلال الرب ، وكمال صفاته ، ويكون هذا الحياء دافعا له على
مراقبة الله على الدوام ؛ لأن شعاره هو قول القائل : " لا تنظر إلى صغر
الخطيئة ، ولكن انظر إلى عظم من عصيته " .
ويمكن أن يُضاف نوع ثالث ، وهو حياء النساء ،
ذلك الحياء الذي يوافق طبيعة المرأة التي خُلقت عليها ، فيزيّنها ويرفع من شأنها
،واستمع إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ تقول : " كنت أدخل بيتي الذي
دُفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ، فأضع ثوبي – أي أطرحه - فأقول : إنما
هو زوجي وأبي ، فلما دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليّ ثيابي ؛
حياء من عمر " .
فإذا اكتمل الحياء في قلب العبد ، استحيا من
الله عزوجل ومن الناس ، بل جرّه حياؤه إلى الاستحياء من الملائكة الكرام ، ولهذا
جاء في الحديث : ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة
تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) رواه مسلم .
لقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم الحياء في
سلوكيات عملية ، تدرّب المرء على هذا الخلق النبيل ، فعن عبد الله بن مسعود قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استحيوا من الله حق الحياء ) ، قلنا : يا رسول
الله إنا نستحيي والحمد لله ، قال : ( ليس ذاك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء
أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، ولتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة
ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ) رواه الترمذي ،
وهذا التصوير النبوي لخلق الحياء ، يدلّنا ويرشدنا إلى أسباب وصول أمتنا لهذا
المستوى من الذلّ والمهانة ، إننا لم نستح من الله حق الحياء ؛ فأصابنا ما أصابنا
، ولو كنا على المستوى المطلوب من خلق الحياء ، لقدنا العالم بأسره ، فالحياء ليس
مجرّد احمرار الوجه وتنكيس الرأس ، بل هو معاملة صادقة ، وإخلاص تام في حق الخالق
والمخلوق .
ولعل مما يحسن التنبيه إليه في هذا الباب أن
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بحجة الحياء من الناس – قصور في الفهم ،
وخطأ في التصوّر ؛ لأن الحياء لا يأتي إلا بخير ، والنبي صلى الله عليه وسلم على
شدة حيائه ، كان إذا كره شيئا عُرف ذلك في وجهه ، ولم يمنعه الحياء من بيان الحق ،
وكثيرا ما كان يغضب غضبا شديدا إذا انتُهكت محارم الله ، ولم يخرجه ذلك عن وصف
الحياء .
وبعد ، فهذه جولة سريعة مع خلق الحياء ، عرفنا
فيها معالمه وفضائله ، وصوره وجوانبه ، وجدير بنا أن نحرص على هذا الخلق النبيل ،
وأن نجعله شعار لنا حتى نلقى ربنا الجليل .
منقول