أهمية الأستثمار فى تنمية الموارد البشرية
مقدمة
أصبح عالمنا اليوم لا يعترف إلا بالدولة القوية، لا من حيث القوة العسكرية فحسب، وإنما من حيث قوتها الاقتصادية، وإذا كانت القوة العسكرية ضرورةً لأية دولة لكي تحمي بها سيادتها، فإن القوة الاقتصادية أصبحت ضرورةً أيضاً؛ تحمي بها قرارها، فالدولة التي تعتمد في مأكلها، وصناعتها، وتجارتها... إلخ على الغير تفقد الكثير من عناصر التحكم في قراراتها - إن كان بيدها قرارٌ في الأصل - وقديماً قالوا: "مَنْ أكل من فأسه، قراره من رأسه"!، وهذا لا يتعارض مع التبادل التجاري، والتقني، والتكنولوجي، والزراعي... إلخ بين الدول، القائم على أساس المشاركة لا التبعية؛ فالدولة الحرة لا تكون عالةً على غيرها، سواء كانت دولةً أو اقتصاداً عالمياً.
ولم يعد خافياً على أحد أن مقياس تقدم الدول هو فيما تنتجه وتقدمه لشعبها أولاً، ثم لشعوب الدول الأخرى، فها هو العالم الموسوم بالعالم المتقدم - (7+1): الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا، واليابان، وروسيا - لم يوسم بالتقدم إلا من خلال ما قدمه للعالم أجمع من تكنولوجيا صناعية متقدمة، أنتج بواسطتها منتجات متقدمة ومتنوعة.
واعتمدت الدول المتقدمة في نهضتها العلمية والعملية على ما تمتلكه من ثروة بشرية، فوجهت جل استثماراتها نحو تنمية هذه الثروة البشرية وتمكينها، من أدوات ووسائل العلم النظري، والتطبيق العملي المتقدم..! وهدفت من وراء ذلك إلى رفع الكفاءة الإنتاجية، وتميز هذه الثروة البشرية، وقد حققت هدفها، والواقع خير دليل على ذلك.
وإن كان تقدم الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا - وهم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية – طبيعياً، فإن من غير الطبيعي أن نجد من بين الدول المتقدمة (ألمانيا، واليابان) وهما الدولتان الخاسرتان في الحرب! وهما خير نموذج للاهتمام بالاستثمار في تنمية الموارد البشرية، وخاصةً اليابان، التي لديها ندرة شديدة في الموارد الطبيعية، وبالرغم من ذلك؛ فقد استطاعت بما تمتلكه من ثروة بشرية أن تبني اقتصاداً قوياً، تقف من خلاله بين مصاف الدول الثمانية الكبار – المشار إليها آنفاً.
وقبل الولوج في الحديث عن أهمية الاستثمار في تنمية الموارد البشرية، ومساهماته في معالجة التنمية الاقتصادية، نود أن نتحدث بإيجاز عن بعض المفاهيم الخاصة بالتنمية بشكل عام، وكذلك الحديث عن الإنتاجية، وأهمية الإنتاجية على مستوى كل من: الفرد، والشركة أو المنظمة، ومردود ذلك على الاقتصاد الوطني والمجتمع ككل؛ ومن ثَمَّ الحديث عن أهمية واستخدامات تحليل الوظائف والتدريب كوسيلتين هامتين تشترك كلٌّ منهما - مع العديد من الوسائل الأخرى - في عملية الاستثمار في التنمية البشرية.
التنمية Development:
للتنمية مفاهيم عدة، تختلف هذه المفاهيم باختلاف المجال الذي تنشده التنمية، فهناك مفهوم خاص بـ (التنمية الاقتصادية)، يهتم بإحداث تغييرات اقتصادية تساعد على إكساب المجتمع القدرة على إشباع حاجاته الأساسية (الفسيولوجية)؛ من مأكل، ومشرب، ومسكن، تتبعها مراحل أخرى تصل بهذا المجتمع إلى درجات متزايدة من الرفاهية، وذلك عن طريق الترشيد اليقظ والمستمر في استغلال هذا المجتمع لثرواته البشرية، وموارده الاقتصادية المتاحة.
وهناك مفاهيم خاصة بـ (التنمية السياسية)، و(التنمية الثقافية)، و(التنمية الاجتماعية).. وغيرها.
وما يهمنا في هذا المقام هو مفهوم (التنمية البشرية)؛ حيث اهتم هذا المفهوم بدعم القدرات الخاصة بالفرد الذي يتكون منه المجتمع، وقياس درجة مستوى معيشة هذا الفرد، ومدى تحسن أوضاعه المعيشية في المجتمع الذي ينتمي إليه.
وبالنظر إلى مفهوم التنمية البشرية – كما ذكرنا – نجده أكثر شمولاً عن مفهوم التنمية البشرية الذي سيطر على فكر الدول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين)، والمفهوم القديم للتنمية البشرية كان مقتصراً على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية (فسيولوجية)، أي: كلما استطاع الفرد أن يحصل على المزيد من تلك السلع والخدمات؛ كلما ارتفع مستوى معيشته؛ ومن ثَمَّ زادت رفاهيته، وهنا تتحقق التنمية البشرية.
إلا أنه مع توسيع مفهوم التنمية ليشمل العديد من النواحي النفسية (السيكولوجية) مثل: الغايات والأهداف الخاصة بالفرد، والتي يحقق معها ذاته وطموحاته... إلخ، إضافةً إلى الأهداف الاقتصادية، مما أدى إلى تغيير مفهوم التنمية البشرية من مجرد إشباع النواحي الفسيولوجية للفرد - كدليل على وصوله إلى مستوى معيشي كريم - إلى مفهوم التنمية البشرية الأوسع، والذي يرتبط بجودة حياة الفرد، بإشباع حاجاته الفسيولوجية والسيكولوجية معاً؛ وليس حياته الفسيولوجية فقط.
وقد أخذت الأمم المتحدة على عاتقها إبراز مفهوم التنمية البشرية، وذلك منذ العام 1990م؛ حين نادت بـ (برنامج الأمم المتحدة للإنماء)، وخصَّصت له تقريراً سنوياً.
ويرجع الاهتمام العالمي بتنمية الموارد البشرية إلى أن البشر هم الثروة الحقيقية لأيَّة دولة، ولأي أمة، وكلما تمكنت الأمة من الحفاظ على ثروتها البشرية، وعملت على تنمية قدراتها عن طريق التأهيل والتدريب المستمر، لإكسابها القدرة على التعامل مع الجديد الذي يظهر على الساحة الدولية بين الحين والآخر؛ كلما تقدمت هذه الأمة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بين الأمم الأخرى.
فالتنمية البشرية تهدف إلى توسيع مدارك الفرد، وإيجاد المزيد من الخيارات المتاحة أمامه، كما تهدف إلى تحسين المستويات الصحية، والثقافية، والاجتماعية، وتطوير معارف ومهارات الفرد، فضلاً على توفير فرص الإبداع، واحترام الذات، وضمان الحقوق الإنسانية، وضمان مشاركاته الإيجابية في جميع مناحي الحياة.
فالاستثمار في تنمية الموارد البشرية أمر هام وضروري، لما للموارد البشرية من أهمية قصوى؛ فهي الثروة الحقيقية والرئيسة للأمم، والأمم المتقدمة أيقنت تلك الحقيقة؛ فأحسنت التخطيط الاستراتيجي، ونفذت برامج محددة لتنمية هذه الثروة البشرية على مدار عقود من الزمان، ونجحت فيما خططت ونفذت، وها هي اليابان خير شاهد على نجاح الاستثمار، وها هي الصين – صاحبة المليار ونصف المليار من البشر - تخطو بخطى ثابتة ومدروسة نحو قيادة العالم، من خلال هذه الثروة البشرية الهائلة، التي جعلت منها ميزة تميزها عن سائر الأمم، ولم تجعل منها عبئاً ثقيلاً أو شماعة تلقي عليها فشلها كما تفعل كثير من حكومات العالم الثالث أو العالم النامي - كما يسمونه.
إن الموارد الطبيعية والأموال المتوافرة لدولة ما - رغم أهميتهما وضرورتهما الكبرى - لا يغنيان أبداً عن العنصر البشري الكفء، والماهر، والفعال، والمدرَّب، والمعد إعداداً جيداً مبنياً على أسس علمية دقيقة، وهذه حقيقة راسخة على مر العصور والأزمان، فالأموال والموارد الطبيعية لا ينتجان منتجاً بذاتهما، فالبشر – بخصائصهم التي خلقهم الله - سبحانه وتعالى - عليها - هم القادرون على استخدام هذه الموارد - بنسب متفاوتة من حيث الكفاءة والفعالية - في العمليات الإنتاجية، للحصول السلع والخدمات التي تعمل على تحقيق أقصى إشباع ممكن للحاجات الفسيولوجية للفرد، بهدف الوصول إلى تحقيق الرفاهية أو الحياة الكريمة للفرد والمجتمع؛ ومن ثَمَّ التقدم الاقتصادي للدولة، وللاقتصاد العالمي ككل.
فالعنصر البشري بما لديه من قدرة على التجديد، والإبداع، والاختراع، والابتكار، والتطوير، يمكنه أن يتغلب على ندرة الموارد الطبيعية، وألا يجعلها عائقاً نحو النمو والتقدم، عن طريق الاستغلال الأفضل - إن لم يكن الأمثل - لطاقات المجتمع العلمية والإنتاجية، فضلاً عن الاستغلال الرشيد للموارد الطبيعية والاستثمارات المتاحة.
ومما ذكرنا: يتبين لنا أهمية العنصر البشري؛ والذي يمثل الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية الشاملة في كافة المجالات الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية... إلخ.
ومما لا شك فيه أن الدولة التي لا تستطيع - أو تعجز عن - تنمية مواردها البشرية لا يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها المخططة والمأمولة، مهما ابتكرت من وسائل، وإنما يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها عن طريق تضافر جميع عناصر الإنتاج: ( الأرض، والعمل، ورأس المال، والإدارة).
ونلاحظ: أن العنصر البشري بما حباه الله - سبحانه - من عقل وطاقات وجهد بشري يمثل عنصرين من عناصر الإنتاج، وهذا التضافر يؤدي بلا ريب إلى التطور والتقدم المنشود، واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة الاستغلال الأمثل، وفتح الأسواق، والقيام بعمليات التبادل التجاري... إلخ، فهناك دول تمتلك موارد بسيطة، ومع ذلك فهي دول متطورة، مثل اليابان – كما ذكرنا سابقاً.
وقبل أن نوضح دور تحليل الوظائف والتدريب في رفع الكفاءة الإنتاجية للأفراد المكونين للعمالة البشرية، أود أن أتطرق للحديث – بإيجاز - عن: ماهية الإنتاجية، أهمية الإنتاجية على مستوى الفرد (العامل)، والشركة أو المنظمة، والاقتصاد الوطني، والمجتمع.
ماهية الإنتاجية:
الإنتاجية: هي كمية الإنتاج من السلع أو الخدمات، التي تتحقق خلال مدة زمنية محددة، عن طريق وحدة معينة من وحدات العمل.
أهمية الإنتاجية على مستوى الفرد (العامل)، والشركة أو المنظمة، والاقتصاد الوطني، والمجتمع:
- أهمية الإنتاجية على مستوى الفرد (العامل):
إنتاجية الفرد العامل ما هي إلا انعكاس حقيقي لمدى مساهمته في العمل - ككل - بالجزء المكلَّف به، والذي يستخدم جهده، وعلمه، ومهارته في أدائه، وتحسب مساهمة الفرد العامل بمقدار القيمة المضافة إلى المنتج النهائي.
ومن الطبيعي أنه كلما زادت إنتاجية الفرد؛ زادت مساهمته في القيمة المضافة إلى المنتج النهائي، فضلاً عن زيادة أهمية دوره الوظيفي، مما ينعكس على شعوره بمدى أهميته في مكان عمله، وما يحصل عليه من مزايا معنوية، متمثلة في شهادة تقدير، أو ثناء رؤسائه على عمله وتقديرهم له، مما يزيد من روحه المعنوية، التي تدفعه إلى بذل المزيد من الجهد، ومن ثَمَّ الحصول على المزيد من التقدم على المستوى الفردي، وعلى مستوى العمل، ومن ثَمَّ شعوره بمدى أهميته داخل مجتمعه، فضلاً عن المزايا المادية، المتمثلة في زيادة الدخل، والمزايا العينية الأخرى.
وعلى النقيض من ذلك: كلما انخفضت إنتاجية الفرد؛ انخفضت – وقد تتلاشى - مساهمته في القيمة المضافة إلى المنتج النهائي، فضلاً عن انخفاض أهمية دوره الوظيفي، مما ينعكس على شعوره بمدى عدم أهميته في مكان عمله – والذي قد يتعرض لفقده – وما يترتب على ذلك من آثار نفسية سلبية ومؤلمة، تؤدي بلا شك إلى المزيد من انخفاض الروح المعنوية، فضلاً عن العقوبات المادية التي قد يتعرض لها، من خصومات تؤدي في النهاية إلى انخفاض دخله، ومن ثَمَّ شعوره بمدى عدم أهميته داخل مجتمعه
[b]
[center]